
جنين بوست – في صباح مزدحم من يوم 20 مارس 1995، وبينما كانت طوكيو تغلي في ذروة حركة المترو، توقفت سيارة أمام بقالة قريبة من إحدى المحطات. نزل السائق لشراء جريدتين، بينما التقط الراكب الذي بجانبه قفازات، شريط لاصق، سكين وصندلاً خفيفاً. بدا كل شيء عادياً… حتى تابعوا سيرهم.
عند إحدى المحطات، نزل الراكب واتجه نحو العربة الأمامية للقطار. وبعد ثلاث محطات، أخرج طرداً من حقيبته، ملفوفاً بجريدة، وثقبه بطرف مظلته الحاد، متأكداً من تسرب كل ما فيه. كان الطرد يحتوي على غاز “السارين”، أحد أخطر الغازات العصبية في العالم.
في ذلك الصباح الكارثي، تعرضت طوكيو لأكبر هجوم إرهابي باستخدام السلاح الكيميائي في تاريخها. خمس رجال من جماعة دينية متطرفة نشروا ما يقارب 5 لترات من غاز السارين داخل عربات المترو في ثلاث خطوط رئيسية تتقاطع جميعها في قلب العاصمة اليابانية. النتيجة؟ 13 قتيلاً وأكثر من 6,000 مصاب.
من هو العقل المدبر لهجوم غاز السارين؟
وراء هذه الجريمة المروعة، يقف رجل أعمى يُدعى شوكو أساهارا، مؤسس جماعة “أوم شينريكيو”، وهي طائفة جمعت بين اليوغا والتطرف، وبين الدين والعنف. ولد أساهارا (الاسم الحقيقي ماتسوموتو) لعائلة فقيرة تعمل في صناعة الحصائر، وكان يعاني من ضعف البصر. منذ صغره، أظهر ميولاً للسيطرة، وكان يستغل زملاءه المكفوفين في المدرسة الخاصة.
بعد دراسته، عمل في الطب البديل وبدأ ببيع منتجات زائفة مثل “زيت الأفاعي”، محققًا أرباحًا ضخمة. ومع ذلك، تم القبض عليه بتهمة الاحتيال. أثناء وجوده في السجن، تغيرت حياته… أو بالأصح، انحرفت بشكل خطير.
بدأ يقرأ في الفلسفات الشرقية، والبوذية، والهندوسية، وادعى أنه “المخلص”، بل “الإله الذي سيقود البشرية إلى الخلاص”. وأسس جماعة أوم شينريكيو، وجذب الآلاف من الأتباع، من بينهم علماء وأطباء ومهندسون من أرقى الجامعات اليابانية.
عقيدة التطهير عبر المعاناة
كان النظام الداخلي للطائفة صادماً: قطع العلاقة بالعائلة، التخلي عن الاسم، المال، والهوية. يخضع الأعضاء لتعذيب نفسي وجسدي، يشمل النوم ثلاث ساعات فقط، التعرض للماء الحار والبارد لساعات، والركوع والوقوف المتكرر حتى الإنهاك. كل ذلك كان يُقدم على أنه “تطهير للكارما السيئة”.
عندما يصبح القتل “خلاصاً”
في عام 1988، تُوفي أحد الأعضاء أثناء “جلسة علاجية”. وعندما حاول أحد أصدقائه الإبلاغ، قُتل خنقًا بأمر من أساهارا. لاحقًا، تمت تصفية محامٍ يدعى “تسوتسومي ساكاموتو”، كان يستعد لنشر تحقيق حول المنظمة، مع زوجته وطفله.
من هنا، بدأت المنظمة بالتحول من طائفة إلى جيش مسلح. أسسوا مصانع للأسلحة الكيماوية والمخدرات، امتلكوا شركات واجهة، واستوردوا معدات عالية التقنية. كما دخلوا أسواق الحواسيب والعقارات، وحققوا ثروة تجاوزت المليار دولار.
يوم الكارثة: هجوم المترو
كان الهدف من هجوم السارين هو إشعال الفوضى، تأخير الانتخابات، وتحقيق “نبوءات” أساهارا عن نهاية العالم، والتي زعم أنها ستبدأ في اليابان. وقد تم التخطيط للهجوم بدقة، ونفذه خمسة رجال، كلٌ منهم أطلق الغاز في عربات ضيقة سيئة التهوية.
النتائج كانت مروعة: مشاهد فوضى في قلب طوكيو، عشرات الضحايا، وخوف عارم انتشر بين الناس.
نهاية أساهارا
بعد شهور من التحقيقات، تم اقتحام مقر الجماعة، والقبض على العشرات من القادة، بينهم أساهارا. وفي عام 2004، تمت إدانته بتهم متعددة، بينها القتل، الإرهاب، وقيادة جماعة إجرامية. أُعدم شنقًا عام 2018.
كلمة أخيرة
قصة هجوم غاز السارين في مترو طوكيو ليست فقط واحدة من أبشع الهجمات الإرهابية الحديثة، بل هي أيضاً تحذير من خطورة الطوائف المتطرفة وغسل الأدمغة. كيف يمكن لشخص واحد أن يقود آلاف الأتباع نحو العنف والدمار باسم الدين؟ سؤال سيظل يطارد ذاكرة اليابانيين، والعالم كله.