
في واحدة من أبشع الكوارث التي شهدها ميناء السخنة خلال السنوات الأخيرة، لقي غطاسان مصرعهما في حادثة مؤلمة تكشف عن حجم الإهمال وغياب الرقابة في قطاع الغطس الصناعي بمصر. الواقعة التي حدثت يوم 21 مايو 2025 لم تكن مجرد حادثة عمل عادية، بل كانت جريمة مكتملة الأركان… جريمة ارتُكبت تحت سطح البحر، ولكن الجاني الحقيقي كان فوق الأرض.
بداية القصة: مهمة غطس عادية تتحول إلى مأساة
صباح يوم الثلاثاء، توجه فريق غطس مكون من اثنين فقط من الغطاسين، في مخالفة واضحة وصريحة لكود الغطس المصري الذي ينص على ضرورة وجود ثلاثة غطاسين على الأقل في أي مهمة غطس صناعي. الفريق كان تابعًا لشركة “O2 Diving” ومقرها الإسكندرية، وتم تكليفهم بمهمة لحام وصيانة تحت الماء في عمق لا يتجاوز 4 أمتار. المهمة بدت بسيطة… لكنها كانت مشبعة بالخطر القاتل.
التحذيرات الأولى: إشارات واضحة تم تجاهلها
قبل الحادث بساعات، نزل غطاسان آخران تابعان لنفس الشركة، لكنهما خرجا بسرعة بعد دقائق، يشكون من أعراض غريبة: دوخة، تهيؤات، ضيق تنفس، وشبه إغماء. تلك كانت علامات واضحة على تسمم غازي أو نقص في الأوكسجين، مما يشير إلى خلل خطير في أسطوانات التنفس أو في معدات الغطس المستخدمة.
ومع أن الغطاسين أبلغوا إدارة الشركة عن هذه الأعراض الخطيرة، لم يتم اتخاذ أي إجراء. لم تُفحص الأسطوانات، ولم يتم استدعاء أي جهة رقابية أو إنقاذ. بل الأسوأ، تم إرسال غطاسين جديدين لمواصلة العمل… دون أي تعديل أو صيانة!
الضحيتان: حسن محمد عدلي ومحمد نبيل
دخل حسن ومحمد المياه الساعة 12 ظهرًا، في مهمة ظنوا أنها يوم عمل عادي. لكنهم لم يعودوا. بعد مرور أكثر من سبع ساعات، تم انتشال جثة حسن، فيما بقي محمد غارقًا في الأعماق لمدة 24 ساعة كاملة، دون أي محاولة إنقاذ فعلية، دون جهاز تتبع، ودون إشراف أو تواصل.
الصدمة الكبرى؟ أن أسطوانة الأوكسجين التي كانت مع حسن وُجدت ممتلئة بنسبة 75%، ما يعني أنه لم يمت بسبب نقص الأوكسجين، بل بسبب التسمم الفوري من ملوثات في الأسطوانة… تحديدًا غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي يسبب الوفاة السريعة دون سابق إنذار.
أين كانت أدوات الإنقاذ؟
وفقًا لكود الغطس المصري والمعايير الدولية، يجب أن يكون هناك:
- جهاز تتبع لكل غطاس.
- أنبوب إنقاذ متصل بالغطاس لسحبه في الطوارئ.
- إشراف مباشر من فنيي غطس محترفين.
- قارب إنقاذ جاهز للإخلاء الفوري.
لكن، لا شيء من ذلك كان موجودًا. كل ما وُجد هو إهمال جسيم وتجاهل تام لحياة البشر.
تكرار الكارثة: تاريخ أسود لشركة O2 Diving
ليست هذه المرة الأولى التي تتورط فيها شركة “O2 Diving” في حوادث مميتة. في عام 2016، توفي غطاس بسبب خلل في جهاز التنفس. وفي 2019، تكررت المأساة بنفس السبب. ومع ذلك، لم يتم إغلاق الشركة أو سحب ترخيصها.
يرى كثيرون أن صاحب الشركة، ضابط بحرية سابق، يتمتع بحصانة غير رسمية، مكنته من الإفلات من المساءلة، حتى بعد إرسال محامين للدفاع عنه كلما وقعت كارثة جديدة.
أصوات الغضب ترتفع: من ينقذ الغطاسين؟
على وسائل التواصل الاجتماعي، انفجرت موجة من الغضب تحت وسم #حق_غطاسي_السخنة. أهالي الضحايا والمجتمع البحري كله طالبوا بفتح تحقيق شفاف ومستقل، ومحاسبة المسؤولين عن الحادث، وسحب ترخيص الشركة، بل وفتح ملفات الحوادث السابقة.
وكتب أحد أصدقاء الضحايا:
“مش طالبين معجزة… بس عايزين ندفن ولادنا. عايزين نعرف مين اللي قرر يسيبهم يموتوا علشان يوفر شوية فلوس!”
من المسؤول الحقيقي؟
- هل هي شركة “O2 Diving”؟
- أم الجهات الرقابية التي لم تتحرك رغم حوادث سابقة؟
- أم منظومة تعطي أصحاب النفوذ الحصانة في وجه العدالة؟
الواقع أن كل تلك الأطراف تتحمل جزءًا من المسؤولية. فالحادثة لا تكشف فقط عن إهمال شركة، بل عن خلل في نظام الرقابة البحري بأكمله.
مأساة إنسانية: دموع الأمهات وألم الفقد
من أصعب المشاهد في القصة، أن أهل حسن ومحمد لم يتمكنوا من رؤيتهما أو حتى وداعهما. حسن له أخ توأم، لم يصدق بعد أنه فقد نصفه الآخر. ووالدة محمد لا تزال تبكي منذ لحظة سماعها بالخبر.
كل هذه التفاصيل تكشف أن ما حدث في السخنة ليس مجرد حادث عمل، بل جريمة قتل بالإهمال.
الرسالة الأخيرة: لا تتركوا دم الغطاسين يضيع
إذا مرت هذه الحادثة مثل غيرها، فسنشهد مأساة جديدة قريبًا. لا بد من:
- وقف نشاط الشركة فورًا.
- فتح تحقيق قضائي مستقل.
- تفعيل الرقابة على شركات الغطس الصناعي.
- إنشاء سجل وطني لحوادث الغطس لضمان الشفافية.